الرئيسية

القس منير سليمانفي الحلقة الأولى، تحدثنا عن معنى التواضع، ورأينا في حياة المسيح أعظم مثال يشرح معنى التواضع. فقد رأينا أن التواضع هو إخلاء النفس لأجل الجميع، وإعطاء النفس لخدمة الآخرين، وإنكار النفس أمام الجميع. ونتحدث الآن عن التواضع في الصلاة.

يذكر الوحي المقدس في إشعياء 2:66 هذه الكلمات: "وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي" (إشعياء 2:66). وأيضًا يقول في مزمور 17:51 "ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اَللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ".

الصلاة التي لا ينكسر فيها الإنسان أمام الله هي صلاة مرفوضة، والصلاة التي ينسحق فيها قلب الإنسان أمام الله يسمعها الله ويستجيبها. لماذا؟ لأنه "يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (يعقوب 7:4)، ولأن الله يسمع للمتواضعين "إذا تواضع شعبي... فإني أسمع..."، ومن هذا المنطلق أذكر بعض الأفكار عن التواضع في الصلاة، فهو

 

1- المجرى للاعتراف الصريح بخطايانا أمام الله

وهذا واضح من صلاة العشار الذي وقف "من بعيد، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: اللهم ارحمني، أنا الخاطئ... هذا نزل إلى بيته مبررًا" (لوقا 13:18-14).

وبولس الرسول العظيم، في تواضع جميل، يشهد عن نفسه قائلاً: "أنا الذي كنت قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا. ولكنني رُحمت، لأني فعلت بجهل في عدم إيمان... صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول: أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (1تيموثاوس 13:1 و15). لكن الإنسان في كبريائه وطبيعته الفاسدة، يحاول تبرير أخطائه وتبرئة نفسه، لأن "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس، من يعرفه؟" (إرميا 9:17).

عندما أخطأ آدم، لم يتواضع ويعترف أمام الله، بل ألقى اللوم على الله وعلى حواء، وحواء ألقت اللوم على الحية.

وعندما قتل قايين هابيل أخاه، قال للرب في تبجّح: أحارس أنا لأخي؟ فلم يعترف أمام الله لكبريائه وقلبه الشرير. أما داود الذي ارتكب خطية الزنا والقتل، عندما كشف له الرب خطيته بواسطة النبي ناثان، لم يبرر نفسه، بل اعترف قائلاً: "قد أخطأت إلى الرب. فقال ناثان لداود: الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك. لا تموت" (2صموئيل 13:12).

فالتواضع أمام الله يدفعنا بالروح القدس، الذي يبكت على خطية وبر ودينونة، إلى الاعتراف بخطايانا أمام الله. "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (1يوحنا 9:1). لنتواضع ونعترف بخطايانا لأن "من يكتم خطاياه لا ينجح، ومن يقرّ بها ويتركها يُرحم" (أمثال 13:28).

2- دافع قوي لانسكاب النفس أمام الله

في مرارة نفسها، ذهبت حنة أم صموئيل إلى هيكل الرب لتصلي وتطلب من الرب، وأطالت الصلاة في محضر الرب، فظنها عالي الكاهن أنها سكرى، فقال لها: "حتى متى تسكرين؟ انزعي خمرك عنكِ. فأجابت حنة وقالت: لا يا سيدي. إني امرأة حزينة الروح ولم أشرب خمرًا، ولا مسكرًا، بل أسكب نفسي أمام الرب" (1صموئيل 13:1-15).

وحزقيا الملك، الذي عيّره سنحاريب وأرسل له رسائل تهديد، سكب قلبه في محضر الرب، فيقول الكتاب: "فَأَخَذَ حَزَقِيَّا الرَّسَائِلَ مِنْ أَيْدِي الرُّسُلِ وَقَرَأَهَا، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ، وَنَشَرَهَا حَزَقِيَّا أَمَامَ الرَّبِّ. وَصَلَّى حَزَقِيَّا أَمَامَ الرَّبِّ وَقَالَ: ... وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُنَا خَلِّصْنَا مِنْ يَدِهِ، فَتَعْلَمَ مَمَالِكُ الأَرْضِ كُلُّهَا أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ الإِلهُ وَحْدَكَ" (2ملوك 14:19-19).

فالتواضع يقودنا إلى انسكاب القلب والنفس أمام الله، وانسكاب القلب يعني أن ننشر رسائل الحرب والألم أمام الله كما فعل حزقيا. انسكاب القلب يعني أن نفتح قلوبنا أمام الرب ونكشف له كل ما بداخلنا من آلام، وهموم، وأحزان، ومتاعب، وضيقات، ومشاكل. انسكاب القلب يعني أن نسمح للروح القدس أن يعمل عمله فيه، فيبكتنا ويعزينا ويعلمنا ويجاوبنا. لنتواضع أمامه ونسكب قلوبنا في محضره كما يقول المزمور: "توكّلوا عليه في كل حين يا قوم. اسكبوا قدامه قلوبكم" (مزمور 8:62).

 

3- سلاح فعّال للانتصار في حروبنا

أي الانتصار على العالم، وعلى إبليس، والخطية، والشهوات التي تواجهنا في حياتنا اليومية.

في الحرب التي شنها بنو موآب، وبنو عمون ومعهم العمونيون على يهوشافاط ملك يهوذا، دخل هذا الأخير بكل تواضع إلى محضر الرب وصلى قائلاً: "يَا إِلهَنَا أَمَا تَقْضِي عَلَيْهِمْ، لأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا قُوَّةٌ أَمَامَ هذَا الْجُمْهُورِ الْكَثِيرِ الآتِي عَلَيْنَا، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا نَعْمَلُ وَلكِنْ نَحْوَكَ أَعْيُنُنَا" (2أخبار 12:20). فاستجاب له الرب وأعطاه قوة عظيمة للانتصار على الأعداء (2أخبار 20:20-30).

ربما تذكرون حادثة المكوك الفضائي Challenger عام 1986. فقبل إطلاقه بليلة واحدة، اجتمع كبار المهندسين والعلماء في محاولة هدفها إثناء عزم مدراء وكالة الفضاء الأميركية NASA عن إطلاق المكوك إلى مداره في الفضاء، إذ أن الطقس البارد في ذلك اليوم الموافق 28 كانون الثاني (يناير) قد يسبب كارثة كبيرة. إلا أن وكالة الفضاء رفضت الاستماع إلى تحذيرات الخبراء، ودخل سبعة من رواد الفضاء إلى المكوك وتم إطلاقه، وشاهد العالم أجمع انفجار المكوك بعد 73 ثانية من إطلاقه. وقد علّقت جريدة نيويورك تايمز على هذه الحادثة بالقول: "إن السبب الحقيقي لهذه الكارثة هو الكبرياء، إذ أخفق رجال الإدارة الذي يضم عشرة أشخاص أن يستمعوا إلى تحذيرات موظفين أدنى منهم مركزًا". لقد ظن هؤلاء أنهم يعلمون كل شيء، لكنهم كانوا مخطئين.

"تسربلوا بالتواضع، لأن: الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه" (1بطرس 5:5-6).

البركة والنجاح والانتعاش منوطة كلها بالتواضع، فنصلي متواضعين معترفين بخطايانا المعطِّلة للبركة، ونسكب قلوبنا منكسرين وملقين كل همومنا عليه، ونطلب واثقين منه النصرة في حروبنا، "فإذا تواضع شعبي... فإني أسمع".