الرئيسية

Ghassan_Khalafالكنيسة في العهد الجديد مجتمع عابدٌ وشاهد. عابد بمعنى "الخروج" من العالم لعبادة الرب "أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي" (خروج 16:7)، و"الدخول" في العالم للشهادة له "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ"؛ "أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ"؛ "لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ" (متى 19:28؛ يوحنا 18:17 و15).

 وهاتان الصفتان للكنيسة يجب أَلاَّ تنفصلا، وأَلاَّ تصطرعا، بل تكمِّل الواحدة الأُخرى وتدعمُها. وهذا ما كان يحدث في الكنيسة الباكرة، ففيما كان اجتماع العبادة والصلاة قائمًا تزعزع المكان، وامتلأَ الجميع من الروح القدس، وشرعَ العابدون ينادون بكلام الله بجرأَة ومجاهرة "وَلَمَّا صَلَّوْا تَزَعْزَعَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلاَمِ اللهِ بِمُجَاهَرَةٍ" (أَعمال 31:4).

بعض من الكنائس أَمسك بصفة من الصفتين وراح يتطرّف في الغوص فيها وفي ممارستها. يشدد بعضهم بلا هوادة على العبادة كمهمة وحيدة للكنيسة، فيصير اجتماعُ العبادة غايةَ الكنيسة القصوى، ومكانًا يتقوقع فيه المؤمنون ليمجدوا الربَّ ويشبعوا منه كيانيًّا، ولا يعودون يفكرون بحاجة العالم إلى الشبع من المسيح كما هم يشبعون "طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ، أَبَدًا يُسَبِّحُونَكَ" (مزمور 4:84). الخطر الكامن هنا هو في أَن نرتوي ولا نُروي. عبادة بلا شهادة كنيسة لا تنمو عددًا. تموت من تضاؤلها.

ويذهب بعضهم مذهبًا آخر، فيشددون على الشهادة أَكثر ممَّا على العبادة، فتكون النتيجة أَن يتحوّل الاجتماع إلى فرصة للتوجُّه نحو غير المؤمنين، وتتحوّل مادة المواعظ إلى ما يسد حاجة هؤلاء، وكذلك أَنواع الترانيم وموسيقاها، ويُسلب حق المؤمن العابد البالغ في إيمانه من الشبع من الله، ومن جمال حضرته. "وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ" (مزمور 4:27). دفعًا لهذا الخطر، تعمد بعض الكنائس إلى تخصيص اجتماعات خلاصية لكي لا يُحرم الشعب من العبادة. الخطر الكامن هنا هو في أَن نُروي ولا نرتوي. شهادة بلا عبادة كنيسة لا تنمو نوعًا. تموت من قحطها.

كيف نعود بنا إلى ما كانت عليه الكنيسة الباكرة، وما يتطلبه المنطق الروحي السليم؟ نعود إلى ما كانت عليه الكنيسة الباكرة من نمو روحي وازدهار عددي إذا جمعنا بشكل صحِّي بين العبادة والشهادة، وإذا أَحللنا كل منهما في موقعه الصحيح!

بدأْنا بالقول عن هاتين الصفتين: العبادة والشهادة يجب أَلَّا تنفصلا، وأَلَّا تصطرعا. فلنكشف كيف يدور الصراع حولهما: بعضهم يريد فصلهما بالكامل: "عبادة / شهادة". وبعضهم يرغب جمعهما بالواو العاطفة: "عبادة وشهادة". وبعضهم يَودُّ تقديم الشهادة على العبادة: "شهادة وعبادة". وبعضهم يصف الواحدة بالأُخرى: "العبادة الشاهدة"، أَو "الشهادة بالعبادة".

أَرى أَن أَفضل ما يُعبِّر عن حقيقة العلاقة بين العبادة والشهادة في العهد الجديد هو أَن نربط بين الاثنتين، ونقدم الواحدة على الأُخرى على النحو التالي: الكنيسة عبادة وشهادة. ونكون في صُلب الصواب إذا قلنا أَيضًا: الكنيسة عبادة - شهادة، والمراد في النهاية: شعب الله عابد - شاهد.

عندما نقدم العبادة على الشهادة لا نرغب في فصلهما، ولكننا نرغب في التشديد على الترتيب والتوالي. إن الإناء عندما يمتلئ يفيض، وشعب الكنيسة عندما يمتلئ من الرب يحدِّث بفضائله "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ" (1بطرس 9:2). من الأََوْْلى أَن نشبع من مائدة الملكوت، ونذوق الرب الصالح "إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ أَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ" (1بطرس 3:2)، لكي يمكننا أَن نرغِّب الناس في الإقبال عليها. "تحب الرب إلهك من كل قلبك"، ثم "تحب قريبك كنفسك".

وبالتالي، عندما تقوم الكنيسة بممارسة العبادة تقوم بالشهادة: "إن اجتمعت الكنيسة ودخل غير مؤمنين (ورأَوا كيف تمارسون العبادة) يسجدون لله وينادون: الله بالحقيقة بينكم" (1كورنثوس 23:14-25). وعندما تقوم الكنيسة بالشهادة تقوم بالعبادة: "الله الذي أَعبده بروحي في (المناداة بـ) إنجيل ابنه" (رومية 9:1).

لقد انحرف بعضهم نحو اعتبار أَن الكنيسة مجرد وسيلة، ووسيلة فقط، لتوصيل رسالة الفداء إلى جميع الشعوب، ونسوا، أَو تناسوا، أَن الكنيسة هي غاية في ذاتها، ومن ثَمَّ هي وسيلة. فالله "يدعونا دعوة مقدسة لا بمقتضى أَعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي مُنحت لنا في المسيح يسوع" [هنا الكنيسة غاية]، ومن ثَمَّ "يجعلنا منادين بالإنجيل" [هنا الكنيسة وسيلة] (راجع 2تيموثاوس 9:1-11). لهذا السبب نقدم العبادة على الشهادة، ولكن لا نفصل بينهما.

أَما اعتبار الكنيسة غاية في ذاتها، فيكفي أَن نردد ما قاله الرسول بولس: "له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أَجيال دهر الدهور" (أَفسس 21:3).